Şøķåŕą
02-25-2022, 05:57 PM
من مقاصد الأمر بالتوحيد
بسم الله، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64].
كما قال تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا النّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ ﴾ [البقرة: ٢١].
أول أمر في القرآن، وهذا خطاب عام لجميع الناس أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى ويفردوه، ويخصوه بالعبادة، لأنه لا رب لهم سواه، فهو الذي خلقهم وخلق آباءهم الأولين.
قال ابن عباسرضياللهعنهما: "كل ما ورد فيالقرآنمنالعبادةفمعناهالتوحيد"[1].
والله الواحد الأحد المنفرد بالذات والصفات في عدم المثل والنظير، واحد الله تعالى ووحده أي نسبه إلى الوحدة والانفراد، فهو سبحانه منفرد في ذاته وصفاته[2].
وأما المدلول الشرعي لكلمة التوحيد، فهو اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له، وإفراده عز وجل بالعبادة، والتوجه إليه وحده بطلب المنافع ودفع المضار، ونفي الكفء والمثل عن ذاته تعالى وصفاته، فهو المتصف بصفات الكمال الذاتية، ونفي الشريك في الربوبية، واعتقاد أنه وحده الخالق الرازق القادر المحيي المميت المعز المذل النافع الضار، المتصرف في هذا الكون بمن فيه وما فيه[3].
الله سبحانه يبيِّن للناس كماله في أسمائه وصفاته، وأنه سبحانه المتصف بصفات الجلال والكمال، والرفعة، وأنه منزه عن نعوت النقص والعجز، وكثيرًا ما يمدح الله نفسه بما له من الكمال المطلق، وأن من كان متصفًا بذلك كله يجب أن يكون معبودًا دون من سواه، ويجب على القلوب السليمة التوجه إليه بالحب والتذلل والتعظيم[4].
وفي الاستدلال بالكمال المطلق يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 22 - 24].
فالله تعالى في هذه الآيات يخبر بأنه هو المعبود سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، ثم بيَّن شيئًا من براهين ذلك فذكر جملة أسمائه الحسنى المتضمنة لعدد من صفاته العليا وكمالاته الجميلة.
ويقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلّا هُوَ فَادعوهُ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ ﴾ [غافر: ٦٥]، ويقول تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأَسماءُ الحُسنى فَادعوهُ بِها وَذَرُوا الَّذينَ يُلحِدونَ في أَسمائِهِ سَيُجزَونَ ما كانوا يَعمَلونَ ﴾ [الأعراف: ١٨٠].
فالله تعالى يأمر عباده بأن يعبدوه بأسمائه الحسنى المتضمنة لمعاني صفاته العليا، وذلك بأن يدركوا كماله بها، فيعلموا أنه سبحانه هو المستحق للعبادة، ويستشعروا معاني صفاته، ويثنوا بها عليه ويأخذوا بحظهم من العبادات المتعلقة بها، ويسألوه بمعانيها الكريمة.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكًا عظيمًا رحيمًا جوَادًا جميلًا هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه، وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنفع بحياتها.
ويذكر ابن القيم مسالك القرآن في الاستدلال بكمال الله تعالى في أسمائه وصفاته على وجوب توحيده، فيقول عن صفات الله: "تعرف بها إلى عباده ليعرفوا كماله وعظمته، ومجده وجلاله، وكثيرًا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه، وجعلوها شركاءَ له، فيذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه، وتكلُّمه وتكليمه وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، ما هو منتف عن آلهتهم، فيكون ذلك من أدل الدليل على بطلان آلهيتها وفساد عبادتها من دونه.
ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته، فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجذب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته، والمسارعة إلى طاعته والتنافس في القرب منه، ويذكر صفاته أيضًا عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه ليُعمرَ، فالقلوب من تخافه وترجوه، وترغب إليه وترهب منه، ويذكر صفاته أيضًا عند أحكامه وأوامره ونواهيه، فقلَّ أن تجد آية حكم من أحكام المكلفين إلا وهي مختتمة بصفة من صفاته أو صفتين، وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها؛ كقوله:﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]؛ المسلك الرشيد لكتاب التوحيد ٢٩.
يذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه، ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه، حتى إن الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه وصفاته، فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها، يصحبها من أولها إلى آخرها، وإنما أمر بإقامته ليذكر بأسمائه وصفاته"؛ المسلك الرشيد لكتاب التوحيد ٢٩.
والإنسان إذا عبد ربه نال شرف عبادة الذي لا يستحق غيره أن يعبد، فالخضوع لله الأحد الحق شرف دونه عبادة المخلوقين الذين لا يملكون عطاءً ولا هداية؛ قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا الحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ ﴾ [الزمر: ٢٩][5].
إن العبادة هي حق العظيم الذي تفرد بالملك والجلال حق الله سبحانه عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلا يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،» قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا؛ لماذا يطلب الله من البشر عبادته ص ٣٦.
يقول ابن القيم: "وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها، وإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية، تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود".
"ولما كان مفتاح الدعوة الالهية معرفة الرب تعالى، قال أفضل الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل، وقد أرسله إلى اليمن:إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتَهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، وذكر باقي الحديث وهو في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم.
فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله"[6].
لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، فإن الإنسان خلق محتاجًا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ونفسه مريدة دائمًا، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها، فتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا الله وحده لا شريك له[7].
فبالتوحيد يقوى ويستغنى، ومن سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله.
مسألة: توحيد العبادة والغاية التي شرعت من أجلها العبودية لله تعالى:
اختلفت فيها المسالك إلى أربعة أقوال أساسية[8]:
القول الأول: أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يكون غيره محبوبًا معبودًا لذاته، وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، ويرضى عنهم، ويفرح بتوبة التائب، ويبغض الكافرين ويمقتهم، ويغضب عليهم ويذمهم، وأن في ذلك من الحكم البالغة، وهو قول أهل السنة والجماعة.
القول الثاني: المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس، وتعديلها؛ لتستعد بذلك للعلم، وليست هي مقصودة في نفسها، ويجعلونها من قسم الأخلاق، وهذا قول متفلسفة اليونان، وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين؛ كالفارابي، وابن سينا، وغيرهما، ومن سلك طريقهم من متكلم، ومتصوف، ومتفقه، كما يوجد مثل ذلك، فيكتب أبي حامد، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وابن عربي، وابن سبعين.
القول الثالث: أن المقصود تحسين التعويض والإثابة بعد الموت؛ فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف، لِما فيه من الإجلال والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف، كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم.
القول الرابع: أن الله أمر بالعبادة لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب، بل لمحض المشيئة، وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم، والأشعري، وخالف كثير من المتكلمين والفقهاء، والصوفية، وغيرهم.
والأقوال الثلاثة الأخيرة ظاهرة البطلان؛ لأن فيها غفلة عن عظمة الله تعالى وجبروته واحتياج النفوس إليه.
والإنسان كلما ترقى في باب المعرفة بربه، وأدرك عظمته بما هو كائن وفضله بما هو له باذل، ازداد يقينًا بضرورة العبادة.
إن هذا الكون بأكمله ساجد في محراب الطاعة، خاضع في محراب الناموس، فلا يخرج عن أمر الله القدري؛ قال تعالى: ﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ كُلٌّ لَهُ قانِتونَ ﴾ [الروم: ٢٦][9].
وقال سبحانه: ﴿ أَفَغَيرَ دينِ اللَّهِ يَبغونَ وَلَهُ أَسلَمَ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَإِلَيهِ يُرجَعونَ ﴾ [آل عمران: ٨٣].
وسجود الإنسان في محراب الطاعة الاختيارية، يتحقق له التناغم مع هذا الكون السائر قهرًا في طريق الخضوع للأمر الإلهي، وبقية الصدام مع الكون المتحرك معه، والإنسان ملزم أن يعبد الله سبحانه، ويصبر نفسه على ذلك[10]؛ قال تعالى: ﴿ رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَما بَينَهُما فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: ٦٥]، والاصطبار شدة الصبر على الأمر الشاق، وبالمصابرة على عبادة الله جل وعلا ينجو الإنسان من عبادة غيره، فإن عبادة الله جل وعلا تقابل عبادة غيره، ولا تقابل حرية الإنسان، فالإنسان منجذب بالعبادة أبدًا، فإما أن يعبد الله أو يعبد غيره؛ كالأهرام والأشخاص والهيئات، ففي عبادة الله عز وجل تحرُّر كامل من عبادة الزيف والزور.
من المقاصد العظيمة للأمر بالتوحيد أن عبادة الله هي عودة للذات، فالعبادة تحفظ الأنسان من أن يغترب عن نفسه في هذا الوجود الصاخب بالضجيج، فهي تُبقي للنفس حظها من الشعور بذاتيتها؛ إذ تُبقي لها حظ الانعزال عن موار الحياة للتزود بالحياة من مالك الكون[11].
ثم إنه سبحانه كما قال قتادة وغيره من السلف لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وفي الحديث الصحيح حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد يسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم ترد عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"[12].
والله أعلم وأعظم وأجل، والحمد لله.
بسم الله، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64].
كما قال تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا النّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ ﴾ [البقرة: ٢١].
أول أمر في القرآن، وهذا خطاب عام لجميع الناس أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى ويفردوه، ويخصوه بالعبادة، لأنه لا رب لهم سواه، فهو الذي خلقهم وخلق آباءهم الأولين.
قال ابن عباسرضياللهعنهما: "كل ما ورد فيالقرآنمنالعبادةفمعناهالتوحيد"[1].
والله الواحد الأحد المنفرد بالذات والصفات في عدم المثل والنظير، واحد الله تعالى ووحده أي نسبه إلى الوحدة والانفراد، فهو سبحانه منفرد في ذاته وصفاته[2].
وأما المدلول الشرعي لكلمة التوحيد، فهو اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له، وإفراده عز وجل بالعبادة، والتوجه إليه وحده بطلب المنافع ودفع المضار، ونفي الكفء والمثل عن ذاته تعالى وصفاته، فهو المتصف بصفات الكمال الذاتية، ونفي الشريك في الربوبية، واعتقاد أنه وحده الخالق الرازق القادر المحيي المميت المعز المذل النافع الضار، المتصرف في هذا الكون بمن فيه وما فيه[3].
الله سبحانه يبيِّن للناس كماله في أسمائه وصفاته، وأنه سبحانه المتصف بصفات الجلال والكمال، والرفعة، وأنه منزه عن نعوت النقص والعجز، وكثيرًا ما يمدح الله نفسه بما له من الكمال المطلق، وأن من كان متصفًا بذلك كله يجب أن يكون معبودًا دون من سواه، ويجب على القلوب السليمة التوجه إليه بالحب والتذلل والتعظيم[4].
وفي الاستدلال بالكمال المطلق يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 22 - 24].
فالله تعالى في هذه الآيات يخبر بأنه هو المعبود سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، ثم بيَّن شيئًا من براهين ذلك فذكر جملة أسمائه الحسنى المتضمنة لعدد من صفاته العليا وكمالاته الجميلة.
ويقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلّا هُوَ فَادعوهُ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ ﴾ [غافر: ٦٥]، ويقول تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأَسماءُ الحُسنى فَادعوهُ بِها وَذَرُوا الَّذينَ يُلحِدونَ في أَسمائِهِ سَيُجزَونَ ما كانوا يَعمَلونَ ﴾ [الأعراف: ١٨٠].
فالله تعالى يأمر عباده بأن يعبدوه بأسمائه الحسنى المتضمنة لمعاني صفاته العليا، وذلك بأن يدركوا كماله بها، فيعلموا أنه سبحانه هو المستحق للعبادة، ويستشعروا معاني صفاته، ويثنوا بها عليه ويأخذوا بحظهم من العبادات المتعلقة بها، ويسألوه بمعانيها الكريمة.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكًا عظيمًا رحيمًا جوَادًا جميلًا هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه، وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنفع بحياتها.
ويذكر ابن القيم مسالك القرآن في الاستدلال بكمال الله تعالى في أسمائه وصفاته على وجوب توحيده، فيقول عن صفات الله: "تعرف بها إلى عباده ليعرفوا كماله وعظمته، ومجده وجلاله، وكثيرًا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه، وجعلوها شركاءَ له، فيذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه، وتكلُّمه وتكليمه وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، ما هو منتف عن آلهتهم، فيكون ذلك من أدل الدليل على بطلان آلهيتها وفساد عبادتها من دونه.
ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته، فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجذب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته، والمسارعة إلى طاعته والتنافس في القرب منه، ويذكر صفاته أيضًا عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه ليُعمرَ، فالقلوب من تخافه وترجوه، وترغب إليه وترهب منه، ويذكر صفاته أيضًا عند أحكامه وأوامره ونواهيه، فقلَّ أن تجد آية حكم من أحكام المكلفين إلا وهي مختتمة بصفة من صفاته أو صفتين، وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها؛ كقوله:﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]؛ المسلك الرشيد لكتاب التوحيد ٢٩.
يذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه، ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه، حتى إن الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه وصفاته، فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها، يصحبها من أولها إلى آخرها، وإنما أمر بإقامته ليذكر بأسمائه وصفاته"؛ المسلك الرشيد لكتاب التوحيد ٢٩.
والإنسان إذا عبد ربه نال شرف عبادة الذي لا يستحق غيره أن يعبد، فالخضوع لله الأحد الحق شرف دونه عبادة المخلوقين الذين لا يملكون عطاءً ولا هداية؛ قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا الحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ ﴾ [الزمر: ٢٩][5].
إن العبادة هي حق العظيم الذي تفرد بالملك والجلال حق الله سبحانه عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلا يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،» قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا؛ لماذا يطلب الله من البشر عبادته ص ٣٦.
يقول ابن القيم: "وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها، وإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية، تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود".
"ولما كان مفتاح الدعوة الالهية معرفة الرب تعالى، قال أفضل الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل، وقد أرسله إلى اليمن:إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتَهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، وذكر باقي الحديث وهو في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم.
فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله"[6].
لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، فإن الإنسان خلق محتاجًا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ونفسه مريدة دائمًا، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها، فتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا الله وحده لا شريك له[7].
فبالتوحيد يقوى ويستغنى، ومن سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله.
مسألة: توحيد العبادة والغاية التي شرعت من أجلها العبودية لله تعالى:
اختلفت فيها المسالك إلى أربعة أقوال أساسية[8]:
القول الأول: أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يكون غيره محبوبًا معبودًا لذاته، وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، ويرضى عنهم، ويفرح بتوبة التائب، ويبغض الكافرين ويمقتهم، ويغضب عليهم ويذمهم، وأن في ذلك من الحكم البالغة، وهو قول أهل السنة والجماعة.
القول الثاني: المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس، وتعديلها؛ لتستعد بذلك للعلم، وليست هي مقصودة في نفسها، ويجعلونها من قسم الأخلاق، وهذا قول متفلسفة اليونان، وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين؛ كالفارابي، وابن سينا، وغيرهما، ومن سلك طريقهم من متكلم، ومتصوف، ومتفقه، كما يوجد مثل ذلك، فيكتب أبي حامد، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وابن عربي، وابن سبعين.
القول الثالث: أن المقصود تحسين التعويض والإثابة بعد الموت؛ فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف، لِما فيه من الإجلال والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف، كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم.
القول الرابع: أن الله أمر بالعبادة لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب، بل لمحض المشيئة، وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم، والأشعري، وخالف كثير من المتكلمين والفقهاء، والصوفية، وغيرهم.
والأقوال الثلاثة الأخيرة ظاهرة البطلان؛ لأن فيها غفلة عن عظمة الله تعالى وجبروته واحتياج النفوس إليه.
والإنسان كلما ترقى في باب المعرفة بربه، وأدرك عظمته بما هو كائن وفضله بما هو له باذل، ازداد يقينًا بضرورة العبادة.
إن هذا الكون بأكمله ساجد في محراب الطاعة، خاضع في محراب الناموس، فلا يخرج عن أمر الله القدري؛ قال تعالى: ﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ كُلٌّ لَهُ قانِتونَ ﴾ [الروم: ٢٦][9].
وقال سبحانه: ﴿ أَفَغَيرَ دينِ اللَّهِ يَبغونَ وَلَهُ أَسلَمَ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَإِلَيهِ يُرجَعونَ ﴾ [آل عمران: ٨٣].
وسجود الإنسان في محراب الطاعة الاختيارية، يتحقق له التناغم مع هذا الكون السائر قهرًا في طريق الخضوع للأمر الإلهي، وبقية الصدام مع الكون المتحرك معه، والإنسان ملزم أن يعبد الله سبحانه، ويصبر نفسه على ذلك[10]؛ قال تعالى: ﴿ رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَما بَينَهُما فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: ٦٥]، والاصطبار شدة الصبر على الأمر الشاق، وبالمصابرة على عبادة الله جل وعلا ينجو الإنسان من عبادة غيره، فإن عبادة الله جل وعلا تقابل عبادة غيره، ولا تقابل حرية الإنسان، فالإنسان منجذب بالعبادة أبدًا، فإما أن يعبد الله أو يعبد غيره؛ كالأهرام والأشخاص والهيئات، ففي عبادة الله عز وجل تحرُّر كامل من عبادة الزيف والزور.
من المقاصد العظيمة للأمر بالتوحيد أن عبادة الله هي عودة للذات، فالعبادة تحفظ الأنسان من أن يغترب عن نفسه في هذا الوجود الصاخب بالضجيج، فهي تُبقي للنفس حظها من الشعور بذاتيتها؛ إذ تُبقي لها حظ الانعزال عن موار الحياة للتزود بالحياة من مالك الكون[11].
ثم إنه سبحانه كما قال قتادة وغيره من السلف لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وفي الحديث الصحيح حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد يسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم ترد عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"[12].
والله أعلم وأعظم وأجل، والحمد لله.