المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحرر في أسباب نزول القرآن


رحيل
09-17-2021, 06:45 PM
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
مقدمة
من صــ 4 الى صـ 9

ـ[المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية]ـ
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
الناشر: دار ابن الجوزي، الدمام - المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى، (1427 هـ - 2006 م)
عدد الأجزاء: 2
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بعلمه وحكمته اختار لصحبة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبر الناس قلوباً، وأصدقهم ألسناً، وأوعاهم حفظًا وفهماً، فشاهدوا التنزيل، وفقهوا التأويل، ووقفوا على ما لم يقف عليه غيرهم من طبقات الأمة، وكان أكبر همهم، ومنتهى سعيهم أن يفهموا خطاب الله لعباده، ويعرفوا مراده من كتابه فبذلك حازوا أفضل العلوم واكتسبوا خلاصة الفهوم.
ولم تزل الأمة تغترف من بحر علمهم وفقههم لا تتجاوز حد فهمهم برأي
أو قياس، سيما إذا كان الأمر يتعلق بكتاب الله حتى قال محمد بن سيرين: سألت عَبيدة عن آية من القرآن. فقال: اتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعلمون فيما أُنزل القرآن. يعني الصحابة.
وقد كفى سلف الأمة من العلماء الأعلام والرواة الأثبات من بعدهم مؤنة جمع العلم وتبويبه، وفقهه ودرايته حتى اجتمع للمتأخرين قدر كبير من المرويات في كل باب من أبواب العلم، وجملةٌ أكبر من الشروحات والتعليقات بحسب ما آتاهم الله من الفهم والاستنباط، وصارت مهمة الباحثين المعاصرين النظر والتأمل في ذلك التراث الضخم، والتدقيق، والترجيح، والتفنن في العرض والتأليف لجمع الشوارد، وتقريب البعيد، ولَمِّ الأشباه والنظائر والمقارنة والموازنة للوصول إلى أقرب النتائج للصواب وأسعدها بالدليل.
وقد حظي (علم أسباب النزول) بعناية العلماء قديماً وحديثاً، ولا غرو، فرغبت بالمشاركة في هذا الفن الشريف، والاشتغال بشعبة منه في دراستي لنيل درجة (الدكتوراه) واخترت لذلك الموضوع التالي:
أسباب النزول
من خلال الكتب التسعة جمعاً ودراسة
وأعني بها موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النَّسَائِي وسنن ابن ماجه.
* أهمية الموضوع:
تكمن أهمية البحث في هذا الموضوع في أمور عديدة من أهمها:
أولاً: شرف العلم بأسباب النزول، لشرف التنزيل، وشرف العلم مبني على شرف المعلوم، ولا شيء أشرف وأجل مما تكلم به سبحانه، أعني كلامه الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، فخير ما بذلت فيه الجهود، وصرفت فيه الأعمار الاشتغال بكتابه العزيز وفهمه وتدبره.
ثانياً: فائدة هذا العلم الجليل في تفسير كتاب الله، والكشف عن وجوه الحِكَم والأحكام التي لا تدرك إلا بالوقوف على أسباب نزول الآيات، قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها).
وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب).
بالإضافة إلى ما يتبع ذلك من تخصيص عام، أو دفع إيهام ونحوه.

* أسباب اختيار الموضوع:
أولاً: أهمية جمع أسباب النزول من مصادرها الأصلية مقرونة بدراسة وافية بين دفتي كتاب، وجاء اختياري للكتب التسعة لتكون مصادر لأسباب النزول لجلالة قدر مؤلفيها وعلو إسنادها، وتلقي الأمة للصحيحين منها بالقبول حتى تكاد تستوعب ما في سواها من دواوين السنة ولهذا اقتصرت على ما ورد فيها.
ثانياً: حاجة المكتبة القرآنية قديمًا وحديثًا إلى مؤلف مفرد يجمع الأسباب ويقدم لها دراسة متكاملةً كي يسهل على القارئ والباحث مقارنة الروايات في مقام واحد، ويلقي الضوء على أوجه الترجيح بينها.
ثالثاً: الحاجة إلى تحقيق المرويات ودراستها دراسة نقدية من الناحيتين التفسيرية والحديثية بسبب تعدد المرويات في الواقعة الواحدة، وتعارضها أحيانًا في أصلها أو أجزائها، وفشو المرويات الضعيفة في كتب التفسير والسنة وشيوعُها في الأمة، فكان لا بد من عمل علمي يستنبط الحقيقة المضيئة من عتامة المرويات المظلمة، ويستخرج الرواية النقية من النبع الصافي الذي كدرته الدلاء الدخيلة.
رابعاً: افتقار المؤلفات المعنية بهذا العلم إلى التحرير والترجيح، حيث يلحظ القارئ وبلا تكلف عناية المؤلفين لهذه المؤلفات بجانب السرد، دون التدقيق والتمحيص واختيار السبب الصحيح، وهذا ما سيضيفه هذا البحث.
خامساً: قصور بعض المؤلفات في هذا الفن عن استيعاب جميع أسباب النزول خصوصًا المذكورة في الكتب التسعة.
سادساً: حرصي على أن يكون موضوع أطروحتي لنيل الدكتوراه ذا فائدة علمية لي أولاً، ثم لأهل التخصص وعامة المسلمين ثانيًا.
* الدراسات السابقة:
تتابع العلماء - رحمهم اللَّه - في التأليف في علم أسباب النزول من قديم الزمان، وهي ما بين مطبوع، ومخطوط، ومفقود، ومع هذا فقد انبرى للتأليف في هذا الزمان جملة من العلماء والباحثين فأجادوا وأفادوا - جزاهم اللَّه خير الجزاء - وقد يسر الله لي الاطلاع على بعض ما أُلف في هذا الباب فرأيته حسناً مفيدًا لكنه لم يتناول هذا العلم على النسق الذي أردت والأسلوب الذي رسمت، وفي ظني - إن شاء اللَّه - أنه سيسهم مساهمة فعالةً في تنقيته من الدخيل والغريب.
ومن المؤلفات التي اطلعت عليها في هذا الباب:
1 - أسباب النزول للواحدي، وعليه بعض الملحوظات على أن هذا لا يعني القدح فيه فمنها:
أ - أن المؤلف قد فاته شيء كثير من أسباب النزول فلم يذكرها.
ب - أنه ساق روايات على أنها أسباب نزول وليست كذلك.
جـ - أنه أغفل مرويات قوية واستشهد بمرويات ضعيفة.
ويغني في وصف الكتاب قول أبي حيان: (وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح) اهـ.
2 - العجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر.
وهذا الكتاب لا يخرج في مضمونه في بعض الأسباب عن نسق غيره من المؤلفات المهتمة بجانب السرد دون الاستيعاب والتدقيق والترجيح، ودون استخراج الأسباب من المصادر الأصلية كالصحاح والسنن والمسانيد.
3 - لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي. وعليه الملاحظات التالية:
أ - أن كثيراً من الآيات لها أسباب نزول لم يذكرها وقد تكون صحيحة مشهورة.
ب - أن بعض الآيات لها أكثر من سبب ولا يذكر إلا واحدًا.
جـ - قد يكون السبب في الصحيحين أو أحدهما ويترك العزو إليهما أو لأحدهما.
د - تصحيحه لبعض الأحاديث الضعيفة.
هـ - صيغة السبب يحولها من غير صريحة إلى صريحة.
4 - الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
وهذا الكتاب تضمن أسبابًا صحيحة لكنه مع هذا يحتاج للإضافة سواء من حيث العدد، أو تحقيق صحتها، أو الجمع والترجيح.
5 - أسباب النزول وأثرها في التفسير للدكتور عصام الحميدان، وقد وضع في كتابه قواعد مفيدة في أسباب النزول، وعقد مقارنة بين كتابي: الواحدي والسيوطي، وقام بدراسة لما فيهما دراسة مختصرة تشبه التعليق في أكثر الأحيان.
6 - أسباب النزول أسانيدها وأثرها في تفسير القرآن الكريم للدكتور جمعة سهل، لم يتيسر لي الاطلاع عليها لكني اطلعت على فهرسها من أحد الفضلاء، ومن خلال اطلاعي على ذلك لم أجد الشيخ ذكر أسباب النزول، لكنه ذكر بعض الضوابط، والقواعد، وحِكم التشريع من خلال أسباب النزول، وما يتبع ذلك.
7 - جامع النقول في أسباب النزول للشيخ ابن خليفة عليوي، فقد ذكر ما أخرجه الواحدي والسيوطي في كتابيهما ثم شرح الآيات التي تضمنتها أسباب النزول عندهما.
هذه بعض المؤلفات المصنفة في هذا الباب، وهناك العديد غيرها لكنها لا تخرج عن منوالها وطريقتها.
وإني لأرجو أن يكون البحث الذي أُقدم له الآن قد شق طريقًا جديدًا وأضاءَ مصباحًا منيراً، تأصيلاً وتأطيرًا، لكل سالك في ميدان أسباب النزول.

http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif

رحيل
09-17-2021, 06:46 PM
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 17 الى صـ 25
الحلقة (2)

التمهيد
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: مكانة أسباب النزول وأهميتها.
المبحث الثاني: فوائد معرفة أسباب النزول.
المبحث الثالث: نشأة علم أسباب النزول.
المبحث الرابع: مصادر أسباب النزول.
المبحث الخامس: بواعث الخطأ في أسباب النزول.
المبحث الأول
مكانة أسباب النزول وأهميتها
القرآن العظيم هو حبل اللَّه المتين وصراطه المستقيم، وحجته البالغة على العالمين يقول - جل وعلا - في وصفه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42).
أنزله - عَزَّ وَجَلَّ - لهداية المتقين فقال - جل شأنه -: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2).
وجعل من حِكم إنزاله إخراج الناس به من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان به، فقال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1).
ثم لم يقصر المنعم المتفضل النعمة على إخراجهم من الظلمات إلى النور بل زادهم من لدنه خيراً كثيراً ثباتاً وهدى وبشرى فقال - جل وعلا -: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102).
وهذه الأوصاف العظيمة وغيرها من المنح الإلهية لا تتحقق للعبد بدون التفكر في القرآن وتدبر معانيه، والنظر في حكمه، وأسراره، ونحن نشاهد أن أرسخ الناس إيماناً وأعمقهم فهماً هم العلماء الربانيون الذين أُوتوا من التدبر والتفكر حظاً عظيماً.
وإذا كان الشأن كذلك فلن يكون الأمر غريباً أن يعيب اللَّه على أولئك المعرضين عن التدبر بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)، لأن اللَّه أخبر وهو أصدق القائلين أنه إنما أنزل القرآن للتدبر والتذكر فقال جل شأنه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)، وهذا التدبر لا يتأتى إلا بمعرفة تفسير الآية، لأن التدبر بدون فهم المعنى ممتنع ومعرفة تفسيرها لا تمكن بغير معرفة سبب نزولها، قال الواحدي: (إنه يمتنع معرفة تفسير الآية وقصدِ سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) اهـ.
فإذا كان التدبر لكتاب اللَّه، وهو مفتاح العلوم والمعارف موقوفاً على التفسير، والتفسير موقوفاً على سبب النزول، فإننا ندرك بذلك المنزلة العالية، والمكانة السامية التي تحظى بها أسباب النزول.
ولا شك أن لأسباب النزول أثراً في التفسير وبيان المراد، ومن ذلك:
1 - أن أسباب النزول في غالبها حكايات وقصص، منها ما هو مختصر ومنها ما هو طويل مبسوط، وهذه القصص تصور العصر الإسلامي الأول، وتصور واقع الذين كانت تتنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم، وتوجيههم، وتربيتهم، وتصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم، من الأمور التي تقدم نفعاً جليلاً في فهم المعنى، إذ هي تبصرة بالمناخ الذي نزل فيه النص، وكثيرًا ما يقع المفسِّر في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع المجتمع الذي يعيش فيه، لا واقع البيئة والمجتمع الذي نزل النص لمعالجته بالتعليم والتوجيه والتربية.
وإذا أردت أن تتحقق من هذا فانظر في قصة الإفك مثلاً فإنها تصوِّر لك البيئة العامة، والخاصة، وتكشف لك الأنماط السائدة ذلك الوقت.
2 - أن أسباب النزول تكشف لنا عن الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات، فهو يقدم للمفسر نفعًا جليلاً، ويهديه إلى مفهوم أدق وأقرب إلى المراد، وذلك أن من الآيات ما يلائم ظرفًا من الظروف في حين أنه قد لا يلائم ظرفًا آخر، إذ ما يلائم في مواسم الأعياد قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم حال المناسك قد لا يلائم في مواضع البيع والشراء.
3 - أن أسباب النزول تبين الحال النفسية والفكرية والاجتماعية التي كان عليها الذين أُنزلت عليهم الآيات، وهذا يفيد المفسر في فهم المعنى، أو في استنباط الفوائد من الآيات.
ويدخل في ذلك تصور حالات السلم والحرب، والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنصر والهزيمة، والإيمان والكفر والنفاق ونحو ذلك من الأحوال النفسية التي يستدعي كلٌ منها ما يلائمه من التعليم والتوجيه والتربية.
ويدخل في ذلك تصور الحالات الاجتماعية كالبداوة والتحضر، والرفعة والضعة والقوة والضعف، والقيادة والانقياد وغيرها من الأحوال التي تتطلب ما يلائمها من البيان.
وكل هذا إنما ينكشف ويتبين بمعرفة أسباب النزول.
ومما يبرز أهمية أسباب النزول ومكانتها احتواؤها على حِكم التشريع البالغة وأسرارها الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى، وحكمته، ورحمته وبره بعباده، ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة. ولم يحسن إليهم إحساناً أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)، وقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17).
وليس يخفى على كل منصف أن العلم بالحكمة الداعية إلى التشريع، يزيد الإيمان واليقين في قلوب المكلفين، وتطمئن به نفوسهم، وتقر به عيونهم،
ولهذا نجد أن الله يقرن الحكم بعلته في مواضع عديدة من كتابه الكريم كقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
وقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
فأسباب النزول تكشف حِكَم الشريعة وأسرارها وفي هذا من الخير ما لا يخفى.
ومن الآثار الحسنة لأسباب النزول، والتي تظهر فيها مكانتها وتسمو بها منزلتها إزالتها للإشكالات التي قد تنشأ عند بعض الناس من فهم غير سديد لآيات القرآن فيفهم منها ما لا يُفهم، ويظن فيها ما لا يُظن، وما ذاك إلا لخفاء أسباب نزول الآيات على أولئك، وعدم علمهم بها، ولو علموا هذه الأسباب وفيما كانت، لتحولت أفهامهم، واستقامت على الصواب نظرتهم وإذا كانت المعاني القرآنية قد تشكل على بعض الصحابة كما وقع لقدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين ظن أن شرب الخمر جائز واستدل على ذلك بالكتاب، حتى بيّن له عمر وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن الآية التي استدل بها هي حجة عليه، وعذراً لمن مات من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم يشربون الخمر قبل تحريمها.
أو تشكل على بعض كبار التابعين كما جرى لعروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع خالته عائشة - رضي الله عنها - حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبا أخذاً من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبينت له أم المؤمنين - رضي الله عنها - سبب نزولها، وأن اللفظ لا يدل على عدم الوجوب.
أو كما جرى لمروان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أشكل عليه قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188). فأزال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الإشكال من قلبه ببيان سبب نزولها وأنها ليست كما يظن مروان.
أقول إذا كانت هذه الإشكالات تقع من هؤلاء الأكابر مع رسوخهم في الدين والعلم، فكيف الظن بمن بعدهم من الذين لم يدركوا ما أدرك هؤلاء السابقون من الخير والدين، ولم تسعفهم علومهم في فهم شيء من أسباب النزول بتة، ولم تنطلق ألسنتهم بلغة القرآن والسنة.
أليس هؤلاء أحوج ما يكونون إلى فهم أسباب النزول أجمعَ والعنايةِ بها ليتمكنوا من فهم معاني القرآن، وفيم نزل، وفيم أُريد به؟
والجواب: بلى وفي ظني وتقديري القاصرَيْن أن حاجتهم ماسة للجميع وليس للآيات المشكلة فحسب؛ لأن السحب بينهم وبين فهم القرآن جِدُّ كثيفة.
وقد تحدث ابن عاشور عن أهمية أسباب النزول ومكانتها في مقدمة تفسيره حيث قال: إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه؛ لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرًا، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة، التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك، ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عبَّاسٍ يقول: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، يشير إلى قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)، فأجاب ابن عبَّاسٍ قائلاً: إنما دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اليهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... ) الآية.
وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا (158) فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (158) ومنها: ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات، فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
ثم ذكر أنه تصفح أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدها أقسامًا:
منها: ما هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلا بد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}، ونحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ومثل بعض الآيات التي فيها {مِنَ النَّاسِ}.
ومنها: ما يفيد البحث فيه زيادة تفهم في معنى الآية، وتمثيلاً لحكمها وهي مساوي لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها مثل قصة عويمر العجلاني الذي نزلت عليه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عليه آية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ... (196)}.
ومنها: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}.
فإذا ظن أحد أن (من) للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرًا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن (من) موصولة، وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: ما لا يبين مجملاً، ولا يؤول متشابهًا، ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: (هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن). اهـ.
وبهذا تتبين لنا مكانة أسباب النزول وأهميتها في فهم الكتاب العزيز، وإزالة ما قد يعلق بالأذهان من إشكال في فهم معاني القرآن، كما تكشف عن حكم الشريعة وأسرارها الباهرة، والله أعلم.
* * *

http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif

Şøķåŕą
09-17-2021, 07:34 PM
تميز في الانتقاء
سلم لنا روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا عطائك
لكـ خالص احترامي

نور القمر
09-17-2021, 09:35 PM
جلب رائع وجميل
متصفح ثري بالروعة
سلمت الايادي ع الطرح
لروحك جنائن الورد

حلا
09-17-2021, 10:22 PM
جزاك الله خير

شيخة الزين
09-18-2021, 03:20 AM
يعطيك العافيه على الطرح القيم
جعله الله في موازين حسناتك

بنت الشام
09-18-2021, 10:06 AM
جزاك الله خير
وجعله فى ميزان حسناتك
وانار دربك بالايمان
ويعطيك العافيه على طرحك
ماننحرم من جديدك المميز
خالص ودى وورودى

رُّوحي بروحهُ
09-19-2021, 11:58 AM
-




جزاك الله كل خير ..

نور القمر
09-20-2021, 11:28 AM
جلب راقي وانتقاء مميز
بوركت جهودك المثمرة
ولا حرمنا عطائك
ودي ..

عبد الحليم
09-21-2021, 09:42 AM
سلمت يداك على الطرح الراقي
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك
لك اعجابي وتقديري

رحيل
09-21-2021, 11:26 AM
جزاك الله خير على الطرح القيم
وجعله الله بميزان حسناتك
ورزقك الله الفردوس الأعلى من الجنه
الله لايحرمنا من جديدك

غلا الشمال
09-21-2021, 02:32 PM
جزاك الله خير الجزاء ونفع بك :eq-34:

Şøķåŕą
09-24-2022, 11:54 AM
_



جزاك الله كل خير ..
وَبارك الله فيك ولا حرمك الأجر
لك من الشكر أجزله.