رحيل
07-08-2021, 07:47 PM
معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة
دروس وعبر
أعظم الدروس وأفضلها وأكثرها دلالة ووضوحاً هو ما جاءت به الآيات الكريمة حول معركة بدر؛ ففيها كل عظة وعبرة، وفيها كل بيان لكل أسباب النصر التي لابد من توفرها عند مواجهة قوى الظلم والبطش وفي ساحة الدفاع عن دين الإسلام.
وقد توسع المفسرون في توضيح هذه الدروس والعبر، يمكن تلخيصها في الصورة التالية:
}وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{، يقول ابن كثير في تفسيره: أي يوم بدر، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فيهم فرسان وسبعُون بعِيراً، والباقون مُشاة، ليس معهم من العَدَد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبَيَّضَ وَجْه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان وجيله؛ ولهذا قال تعالى - مُمْتَناً على عباده المؤمنين وحِزبه المتقين-: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العَدَد والعُدَد؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 25 -27).
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآيات - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن.
كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيراً لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة. وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين، ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة.
فبهذا كله يذكرهم الله سبحانه ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}..
إن الله هو الذي نصرهم; ونصرهم لحكمة نص عليها في هذه الآيات.
وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة، والذي يملك القوة وحده والسلطان؛ فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر.. هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.
وأضاف سيد قطب: ثم يستحضر مشهدها كأنهم اللحظة فيها: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
وكانت هذه كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه، والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح. وقد أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بلّغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك أن شرط هذا المدد هو الصبر والتقوى، الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم; لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة وإرادته الفاعلة وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده.
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة؛ لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب. بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط..
إن النصر من عند الله؛ لتحقيق قدر الله. وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء، فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه، ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه. إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده؛ لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: {ليقطع طرفاً من الذين كفروا}. فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة.
{أو يكبتهم فينقلبوا خائبين}، أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين. {أو يتوب عليهم}؛ فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية.
{أو يعذبهم فإنهم ظالمون}؛ يعذبهم بنصر المسلمين عليهم، أو بأسرهم، أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب، جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه، إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه، وبذلك ينجون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو، وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولاً وأخيراً.
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء..
أما الشيخ الشعراوي فقد طرح نقاطاً مهمة حول عوامل النصر، ومن ذلك أن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر.
فالله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟، إنه القادر على الصبر والتقوى.
وقال: إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عُدة. لذلك قال الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ}، ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت، فالله هو الذي يكملكم بالنصر.
أما المدد الذي أرسله الله في بدر فإنه بشرى لتؤنس المادة البشرية لدى الإنسان؛ فالله سبحانه وتعالى قادر على تحقيق النصر دون وجود هذا المدد.
فساعة يرى المؤمنون أعداداً كبيرة من المدد، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر. إذن فالملائكة مجرد بُشرى، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يغلب. وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً.
وعند قول الله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} يقول الشعراوي: لم يقل الله تعالى ليستأصل بل ليقطع؛ لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار؛ لأن له في الإيمان دوراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتلئاً بالعطف والرحمة والحنان على أمته، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر.
ها هو ذا الحق يقول:{فَلَعَلَّك َ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ* إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
والله يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: }فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ{، والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته، فقال الحق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.
أيضاً من الدروس أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يواجه المسلمون - وهم قلة - جيشاً له شوكة أي له عدة وعتاد؛ لأن المسلمين ظنوا أن الاستيلاء على قافلة أبي سفيان لن يستغرق منهم وقتاً طويلاً أو جهداً كبيراً، فحراس القافلة عدد محدود وبلا سلاح قوي.
لكن شاء الله عز وجل أن يخوض المؤمنون المعركة وهم قلة وأن ينتصروا، حتى يعلم الجميع أن هذه القلة المؤمنة انتصرت بلا عددٍ ولا عُدَّة على من يملكون العدد والعدة، وبذلك يظهر الفرق بين الإيمان والكفر، وبين نصر الله وزيف الشيطان، ولو استولى المسلمون على قافلة قريش لقيل: إن أية مجموعة من المسلحين كانت تستطيع أن تنهب هذه القافلة؛ ولذلك لم يعطهم الله العير بل ابتلاهم بالنفير وهو الجيش الخارج من مكة بقصد الحرب وهو مستعد لها ليلفت النظر إلى هؤلاء المؤمنين الذين خرجوا بغير قصد الحرب وقد انتصروا على الكفار الذين خرجوا للحرب واستعدوا لها.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}، أي لو أن المؤمنين اتفقوا مع الكفار على موعد ومكان لجاء بعضهم متأخراً عن الموعد أو منحرفاً عن المكان، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد موعد المعركة ومكانها بدقة تامة فتم اللقاء في الموعد والمكان المحددين ليتم الأمر كما قدره الله سبحانه وتعالى، والأمر هو معركة بدر، وليلقى المؤمنون الكافرين، لينتصروا عليهم.
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن، فينبئ أصحابه برؤياه، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة.. ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً. فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم، وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم، فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم.. وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً، {ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور}.
ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً، ولم يرهم إياه كثيراً..
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية. فقد رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلاً وهم كثير عددهم، ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع، والإيمان الدافع، والزاد النافع.. وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة. والله عليم بسرائرهم، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم من ضعف عن المواجهة وتنازع على الالتحام أو الإحجام.
وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور.
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة، في صورة عيانية من الجانبين؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة، والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً؛ لأنهم يرونهم بعين الحقيقة.. والمشركون يرونهم قليلاً؛ وهم يرونهم بعين الظاهر، ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي، ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} . .
وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء، فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده، يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه، ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره.
إذ إن الأمر كذلك: التدبير تدبير الله، والنصر من عند الله، والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة؛ فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا، وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة، وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان. وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة، وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل، وليحترزوا من خداع الشيطان الذي أهلك أولئك الكفار، وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49){.
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي.
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر؛ فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه. وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار، وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟، بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا، وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟.
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن، كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة..
ومن خلال النظر في أحداث المعركة نلاحظ أن عوامل النصر التي ذكرها الله تعالى قد توفرت في جيش المؤمنين.
فثبات الصحابة وعدم تنازعهم قد بينه الصحابي المقداد بن عمرو عندما قال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام }اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون{، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له.
وعبر عنه الصحابي سعد بن معاذ بقوله: فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
والالتجاء إلى الله لم يكن يفارق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام: [اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً].
ومع الثبات والتوكل على الله والتقوى كان لا بد من الصبر الذي حض عليه رسول الله: [والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة].
إلى جانب ذلك كان الصحابة أشد حرصاً على اتباع أوامر وتوجيهات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كل شيء دون تردد.. فهذا الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري لما رأى رسول الله قد نزل عند أدنى ماء من بدر، كان له رأي آخر، ولكنه أراد أن يتأكد أولاً إن كان ما فعله رسول الله هو أمر من الله يجب الالتزام به أم أنه رأي واجتهاد من الرسول، فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
عندها طرح الحباب رأيه في اختيار الموضع المناسب لإقامة المعسكر، وأقره رسول الله على ذلك لما فيه من حسن التدبير والتخطيط.. فالاجتهاد في تحصيل الأسباب المادية مطلوب لتحقيق النصر، ومطلوب لتحقيق معاني التوكل على الله.
الخلاصة
إذاً فعوامل النصر والفوز وأدوات القوة تأتي - قبل كل شيء - من الارتباط بالله القوي المتين الحكيم من حيث الالتزام بمنهجه والعمل بما يرضاه.. ثم تأتي الوسائل المادية المكملة.
فإذا تحقق ذلك في المسلم فستكون لديه القوة الكافية ولن يكون للضعف أو الخوف منفذاً إلى قلبه.. وسيدرك أنه منصور لا محالة عاجلاً أو آجلاً، وأن العاقبة له.
المصادر
- تفسير ابن كثير.
- (في ظلال القرآن)، سيد قطب.
- تفسير الشعراوي.
- (زاد المعاد)، ابن القيم.
منقول
دروس وعبر
أعظم الدروس وأفضلها وأكثرها دلالة ووضوحاً هو ما جاءت به الآيات الكريمة حول معركة بدر؛ ففيها كل عظة وعبرة، وفيها كل بيان لكل أسباب النصر التي لابد من توفرها عند مواجهة قوى الظلم والبطش وفي ساحة الدفاع عن دين الإسلام.
وقد توسع المفسرون في توضيح هذه الدروس والعبر، يمكن تلخيصها في الصورة التالية:
}وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{، يقول ابن كثير في تفسيره: أي يوم بدر، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فيهم فرسان وسبعُون بعِيراً، والباقون مُشاة، ليس معهم من العَدَد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبَيَّضَ وَجْه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان وجيله؛ ولهذا قال تعالى - مُمْتَناً على عباده المؤمنين وحِزبه المتقين-: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العَدَد والعُدَد؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 25 -27).
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآيات - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن.
كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيراً لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة. وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين، ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة.
فبهذا كله يذكرهم الله سبحانه ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}..
إن الله هو الذي نصرهم; ونصرهم لحكمة نص عليها في هذه الآيات.
وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة، والذي يملك القوة وحده والسلطان؛ فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر.. هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.
وأضاف سيد قطب: ثم يستحضر مشهدها كأنهم اللحظة فيها: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
وكانت هذه كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه، والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح. وقد أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بلّغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك أن شرط هذا المدد هو الصبر والتقوى، الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم; لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة وإرادته الفاعلة وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده.
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة؛ لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب. بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط..
إن النصر من عند الله؛ لتحقيق قدر الله. وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء، فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه، ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه. إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده؛ لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: {ليقطع طرفاً من الذين كفروا}. فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة.
{أو يكبتهم فينقلبوا خائبين}، أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين. {أو يتوب عليهم}؛ فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية.
{أو يعذبهم فإنهم ظالمون}؛ يعذبهم بنصر المسلمين عليهم، أو بأسرهم، أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب، جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه، إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه، وبذلك ينجون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو، وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولاً وأخيراً.
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء..
أما الشيخ الشعراوي فقد طرح نقاطاً مهمة حول عوامل النصر، ومن ذلك أن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر.
فالله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟، إنه القادر على الصبر والتقوى.
وقال: إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عُدة. لذلك قال الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ}، ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت، فالله هو الذي يكملكم بالنصر.
أما المدد الذي أرسله الله في بدر فإنه بشرى لتؤنس المادة البشرية لدى الإنسان؛ فالله سبحانه وتعالى قادر على تحقيق النصر دون وجود هذا المدد.
فساعة يرى المؤمنون أعداداً كبيرة من المدد، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر. إذن فالملائكة مجرد بُشرى، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يغلب. وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً.
وعند قول الله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} يقول الشعراوي: لم يقل الله تعالى ليستأصل بل ليقطع؛ لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار؛ لأن له في الإيمان دوراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتلئاً بالعطف والرحمة والحنان على أمته، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر.
ها هو ذا الحق يقول:{فَلَعَلَّك َ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ* إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
والله يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: }فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ{، والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته، فقال الحق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.
أيضاً من الدروس أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يواجه المسلمون - وهم قلة - جيشاً له شوكة أي له عدة وعتاد؛ لأن المسلمين ظنوا أن الاستيلاء على قافلة أبي سفيان لن يستغرق منهم وقتاً طويلاً أو جهداً كبيراً، فحراس القافلة عدد محدود وبلا سلاح قوي.
لكن شاء الله عز وجل أن يخوض المؤمنون المعركة وهم قلة وأن ينتصروا، حتى يعلم الجميع أن هذه القلة المؤمنة انتصرت بلا عددٍ ولا عُدَّة على من يملكون العدد والعدة، وبذلك يظهر الفرق بين الإيمان والكفر، وبين نصر الله وزيف الشيطان، ولو استولى المسلمون على قافلة قريش لقيل: إن أية مجموعة من المسلحين كانت تستطيع أن تنهب هذه القافلة؛ ولذلك لم يعطهم الله العير بل ابتلاهم بالنفير وهو الجيش الخارج من مكة بقصد الحرب وهو مستعد لها ليلفت النظر إلى هؤلاء المؤمنين الذين خرجوا بغير قصد الحرب وقد انتصروا على الكفار الذين خرجوا للحرب واستعدوا لها.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}، أي لو أن المؤمنين اتفقوا مع الكفار على موعد ومكان لجاء بعضهم متأخراً عن الموعد أو منحرفاً عن المكان، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد موعد المعركة ومكانها بدقة تامة فتم اللقاء في الموعد والمكان المحددين ليتم الأمر كما قدره الله سبحانه وتعالى، والأمر هو معركة بدر، وليلقى المؤمنون الكافرين، لينتصروا عليهم.
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن، فينبئ أصحابه برؤياه، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة.. ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً. فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم، وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم، فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم.. وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً، {ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور}.
ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً، ولم يرهم إياه كثيراً..
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية. فقد رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلاً وهم كثير عددهم، ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع، والإيمان الدافع، والزاد النافع.. وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة. والله عليم بسرائرهم، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم من ضعف عن المواجهة وتنازع على الالتحام أو الإحجام.
وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور.
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة، في صورة عيانية من الجانبين؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة، والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً؛ لأنهم يرونهم بعين الحقيقة.. والمشركون يرونهم قليلاً؛ وهم يرونهم بعين الظاهر، ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي، ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} . .
وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء، فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده، يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه، ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره.
إذ إن الأمر كذلك: التدبير تدبير الله، والنصر من عند الله، والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة؛ فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا، وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة، وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان. وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة، وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل، وليحترزوا من خداع الشيطان الذي أهلك أولئك الكفار، وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49){.
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي.
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر؛ فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه. وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار، وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟، بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا، وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟.
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن، كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة..
ومن خلال النظر في أحداث المعركة نلاحظ أن عوامل النصر التي ذكرها الله تعالى قد توفرت في جيش المؤمنين.
فثبات الصحابة وعدم تنازعهم قد بينه الصحابي المقداد بن عمرو عندما قال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام }اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون{، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له.
وعبر عنه الصحابي سعد بن معاذ بقوله: فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
والالتجاء إلى الله لم يكن يفارق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام: [اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً].
ومع الثبات والتوكل على الله والتقوى كان لا بد من الصبر الذي حض عليه رسول الله: [والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة].
إلى جانب ذلك كان الصحابة أشد حرصاً على اتباع أوامر وتوجيهات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كل شيء دون تردد.. فهذا الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري لما رأى رسول الله قد نزل عند أدنى ماء من بدر، كان له رأي آخر، ولكنه أراد أن يتأكد أولاً إن كان ما فعله رسول الله هو أمر من الله يجب الالتزام به أم أنه رأي واجتهاد من الرسول، فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
عندها طرح الحباب رأيه في اختيار الموضع المناسب لإقامة المعسكر، وأقره رسول الله على ذلك لما فيه من حسن التدبير والتخطيط.. فالاجتهاد في تحصيل الأسباب المادية مطلوب لتحقيق النصر، ومطلوب لتحقيق معاني التوكل على الله.
الخلاصة
إذاً فعوامل النصر والفوز وأدوات القوة تأتي - قبل كل شيء - من الارتباط بالله القوي المتين الحكيم من حيث الالتزام بمنهجه والعمل بما يرضاه.. ثم تأتي الوسائل المادية المكملة.
فإذا تحقق ذلك في المسلم فستكون لديه القوة الكافية ولن يكون للضعف أو الخوف منفذاً إلى قلبه.. وسيدرك أنه منصور لا محالة عاجلاً أو آجلاً، وأن العاقبة له.
المصادر
- تفسير ابن كثير.
- (في ظلال القرآن)، سيد قطب.
- تفسير الشعراوي.
- (زاد المعاد)، ابن القيم.
منقول