Şøķåŕą
06-15-2021, 10:21 PM
تفسير قوله تعالى: ﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18]: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم صمٌّ بكم عمي.
و"صم" جمع أصَمَّ، وهو الذي لا يسمع؛ أي: صُمٌّ لا يسمعون أيَّ صوت مهما كان عاليًا أو منخفضًا.
﴿ بُكْمٌ ﴾ جمع "أبكم"، وهو الذي لا ينطق؛ أي: بكم لا ينطقون بأي كلمة.
﴿ عُمْيٌ ﴾ جمع "أعمى"، وهو الذي لا يُبصر؛ أي: عمي لا يبصرون أي شيء مهما كان.
﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]: الفاء: عاطفة، وفيها معنى السببية؛ أي: فهم بسبب ذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل استيقاد النار وبعده، وعمَّا هم عليه من الصم والبكم والعمى؛ فبقُوا في الظلمات ضالين متحيرين.
فشبَّه الله عز وجل حال المنافقين في اشترائهم الضلالة بالهدى، وما هم فيه من الظلمات والضلال والحيرة - بمن استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فكما أن هذا المستوقد قد صار هو ومن معه في أشد الظلمات الحسية بعد ذهاب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم الآذان فلا يسمعون، وبكم الألسنة فلا ينطقون، وعمي الأبصار فلا يُبصِرون، فهم لا يتمكنون من الرجوع إلى حالهم قبل هذه الظلمات، فكذلك حال المنافقين يُعطَون في الدنيا نورًا معنويًّا ظاهرًا حسب إيمانهم الظاهر، يعيشون به بين المؤمنين عيشة مادية بهيمية، يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، مع ما في قلوبهم وباطنهم من الظلمات المعنوية الشديدة والمتراكمة؛ ظلمات الجهل والكفر، والشك والنفاق، والتذبذب والحيرة، لا يبصرون ولا يهتدون إلى طريق الحق، صم القلوب لا يستمعون إلى داعي الحق، ولا ينتفعون بما يسمعون فكأنهم لا يسمعون، كما قال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21].
قال الشاعر:
صُمٌّ إذا سَمِعوا خيرًا ذُكِرتُ به *** وإنْ ذُكِرتُ بسوء عندهم أَذِنُوا[1]
بكم الألسنة لا ينطقون بالحق، ولا يسألون عنه، فكأنهم لا ينطقون.
عُمْي القلوب لا ينظرون في آيات الله الكونية والشرعية، ولا يتأملون فيها، ولا يهتدون بها في معرفة الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 26]، وقال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].
كما يُعطى المنافقون يوم القيامة بصيصًا من النور الظاهر يذهب وينطفئ على جسر جهنم أحوجَ ما كانوا إليه، فيَضِلُّون في أحْلَكِ الظلمات، ويكردسون في النار، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعطي كلَّ مؤمن ومنافق نورًا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليبُ وحسك تأخذ من شاء الله تعالى، ثم يُطفَأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون))[2].
قال ابن القيم:
"وقد فسِّرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا، وفسِّرت بأنها في البرزخ، وفسِّرت بيوم القيامة، والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاث، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جُوزُوا في البرزخ وفي القيامة بمِثل حالهم، جزاءً وفاقًا: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]؛ فإن المعاد يعود إلى العبد فيه ما كان حاصلًا منه في الدنيا؛ ولهذا يسمى يوم الجزاء ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]، ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76]، ومن كان مستوحشًا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار، فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظمُ وأشد، ومن قرَّت عينه به في هذه الحياة الدنيا، قرَّت به عينه يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عملُه بعينه"[3].
وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17] إشارة إلى أن المنافقين لما آمَنوا بألسنتهم ولم تؤمِن قلوبُهم، كان ما معهم من النور كالمستعار، وذلك إنما حصل لهم بسبب وجودهم بين ظهرانَي المؤمنين.
وفي قوله: ﴿ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ [البقرة: 17] إشارة إلى أن النور لم ينفذ إلى قلوب هؤلاء المنافقين، وإنما كان خارجًا عنها؛ لذا لم يستفيدوا منه إلا استفادة ظاهرة مادية مؤقتة.
وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17] تشبيه للمنافقين بمن حصلت له إضاءة ثم أعقبها ذهاب النور وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لأن المنافقين آمنوا ثم كفروا، أو لأنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ [المنافقون: 3].
وفي قوله تعالى: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ تأكيد لذهاب النور كلية عن هذا المستوقد ومن معه، وذهاب الإضاءة من باب أولى؛ لأنها ثمرة النور، ففيها تأكيد بانعدام النور كلية من قلوب هؤلاء المنافقين في الدنيا، فهم في حيرة واضطراب وشك وجهل وكفر، وهكذا حالهم في البرزخ وفي عرصات القيامة.
وفيه دلالة على أن النور من الله عز وجل يعطيه من يشاء بفضله، ويمنعه عمن يشاء بعدله، كما قال تعالى: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
وهنا إشارة إلى أن نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم، وإلا انطفأت جذوته، كما أن النار بحاجة إلى مادة وقود وإلا انطفأت.
وفي تشبيههم بأشد الظُّلمتين - وهي الظلمة الحادثة بعد ذهاب النور - بيانُ ما هم فيه من الحيرة والشكوك والكفر مما ليس عند الكافر صراحة؛ لأنه لم يخرج من الظلمة قط، وقد خرجوا منها ثم ارتكسوا، أو لأنهم آمنوا في الظاهر وكفروا في الباطن.
قال ابن القيم: "فهذه حال من أبصَرَ ثم عَمِيَ، وعرَف ثم أنكَر، ودخل الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال: ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]"[4].
وأفرد النور وجمع الظلمات، كما في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [إبراهيم: 1]؛ وذلك لأن طريق الحق واحد وهو صراط الله المستقيم، وطرق الباطل متعددة متشعبة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
وفي قوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18] تشبيه المنافقين بمن فقدوا حواسَّ السمع والنطق والبصر؛ لأنهم لم ينتفعوا بها، فهم صُمٌّ عن سماع الحق والانتفاع به، بُكْمٌ عن قول الحق والنطق به، عُميٌ عن النظر والتأمل في آيات الله بأبصارهم وبصائرهم.
قال ابن القيم: "فإن الهدى يدخل على العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه، ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سُدَّتْ عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئًا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها"[5].
وقال أيضًا: "فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم"[6].
ولهذا قال عز وجل: ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]؛ أي: لا يرجعون ولا يخرجون عما هم فيه من ظلمات الجهل والشك والكفر والنفاق؛ لحرمانهم من نور الله عز وجل، وانسداد أبواب الهداية لديهم بالصمم والبكم والعمى، نسأل الله تعالى الهداية والعافية، وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18]: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم صمٌّ بكم عمي.
و"صم" جمع أصَمَّ، وهو الذي لا يسمع؛ أي: صُمٌّ لا يسمعون أيَّ صوت مهما كان عاليًا أو منخفضًا.
﴿ بُكْمٌ ﴾ جمع "أبكم"، وهو الذي لا ينطق؛ أي: بكم لا ينطقون بأي كلمة.
﴿ عُمْيٌ ﴾ جمع "أعمى"، وهو الذي لا يُبصر؛ أي: عمي لا يبصرون أي شيء مهما كان.
﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]: الفاء: عاطفة، وفيها معنى السببية؛ أي: فهم بسبب ذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل استيقاد النار وبعده، وعمَّا هم عليه من الصم والبكم والعمى؛ فبقُوا في الظلمات ضالين متحيرين.
فشبَّه الله عز وجل حال المنافقين في اشترائهم الضلالة بالهدى، وما هم فيه من الظلمات والضلال والحيرة - بمن استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فكما أن هذا المستوقد قد صار هو ومن معه في أشد الظلمات الحسية بعد ذهاب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم الآذان فلا يسمعون، وبكم الألسنة فلا ينطقون، وعمي الأبصار فلا يُبصِرون، فهم لا يتمكنون من الرجوع إلى حالهم قبل هذه الظلمات، فكذلك حال المنافقين يُعطَون في الدنيا نورًا معنويًّا ظاهرًا حسب إيمانهم الظاهر، يعيشون به بين المؤمنين عيشة مادية بهيمية، يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، مع ما في قلوبهم وباطنهم من الظلمات المعنوية الشديدة والمتراكمة؛ ظلمات الجهل والكفر، والشك والنفاق، والتذبذب والحيرة، لا يبصرون ولا يهتدون إلى طريق الحق، صم القلوب لا يستمعون إلى داعي الحق، ولا ينتفعون بما يسمعون فكأنهم لا يسمعون، كما قال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21].
قال الشاعر:
صُمٌّ إذا سَمِعوا خيرًا ذُكِرتُ به *** وإنْ ذُكِرتُ بسوء عندهم أَذِنُوا[1]
بكم الألسنة لا ينطقون بالحق، ولا يسألون عنه، فكأنهم لا ينطقون.
عُمْي القلوب لا ينظرون في آيات الله الكونية والشرعية، ولا يتأملون فيها، ولا يهتدون بها في معرفة الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 26]، وقال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].
كما يُعطى المنافقون يوم القيامة بصيصًا من النور الظاهر يذهب وينطفئ على جسر جهنم أحوجَ ما كانوا إليه، فيَضِلُّون في أحْلَكِ الظلمات، ويكردسون في النار، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعطي كلَّ مؤمن ومنافق نورًا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليبُ وحسك تأخذ من شاء الله تعالى، ثم يُطفَأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون))[2].
قال ابن القيم:
"وقد فسِّرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا، وفسِّرت بأنها في البرزخ، وفسِّرت بيوم القيامة، والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاث، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جُوزُوا في البرزخ وفي القيامة بمِثل حالهم، جزاءً وفاقًا: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]؛ فإن المعاد يعود إلى العبد فيه ما كان حاصلًا منه في الدنيا؛ ولهذا يسمى يوم الجزاء ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]، ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76]، ومن كان مستوحشًا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار، فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظمُ وأشد، ومن قرَّت عينه به في هذه الحياة الدنيا، قرَّت به عينه يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عملُه بعينه"[3].
وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17] إشارة إلى أن المنافقين لما آمَنوا بألسنتهم ولم تؤمِن قلوبُهم، كان ما معهم من النور كالمستعار، وذلك إنما حصل لهم بسبب وجودهم بين ظهرانَي المؤمنين.
وفي قوله: ﴿ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ [البقرة: 17] إشارة إلى أن النور لم ينفذ إلى قلوب هؤلاء المنافقين، وإنما كان خارجًا عنها؛ لذا لم يستفيدوا منه إلا استفادة ظاهرة مادية مؤقتة.
وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17] تشبيه للمنافقين بمن حصلت له إضاءة ثم أعقبها ذهاب النور وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لأن المنافقين آمنوا ثم كفروا، أو لأنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ [المنافقون: 3].
وفي قوله تعالى: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ تأكيد لذهاب النور كلية عن هذا المستوقد ومن معه، وذهاب الإضاءة من باب أولى؛ لأنها ثمرة النور، ففيها تأكيد بانعدام النور كلية من قلوب هؤلاء المنافقين في الدنيا، فهم في حيرة واضطراب وشك وجهل وكفر، وهكذا حالهم في البرزخ وفي عرصات القيامة.
وفيه دلالة على أن النور من الله عز وجل يعطيه من يشاء بفضله، ويمنعه عمن يشاء بعدله، كما قال تعالى: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
وهنا إشارة إلى أن نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم، وإلا انطفأت جذوته، كما أن النار بحاجة إلى مادة وقود وإلا انطفأت.
وفي تشبيههم بأشد الظُّلمتين - وهي الظلمة الحادثة بعد ذهاب النور - بيانُ ما هم فيه من الحيرة والشكوك والكفر مما ليس عند الكافر صراحة؛ لأنه لم يخرج من الظلمة قط، وقد خرجوا منها ثم ارتكسوا، أو لأنهم آمنوا في الظاهر وكفروا في الباطن.
قال ابن القيم: "فهذه حال من أبصَرَ ثم عَمِيَ، وعرَف ثم أنكَر، ودخل الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال: ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]"[4].
وأفرد النور وجمع الظلمات، كما في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [إبراهيم: 1]؛ وذلك لأن طريق الحق واحد وهو صراط الله المستقيم، وطرق الباطل متعددة متشعبة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
وفي قوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18] تشبيه المنافقين بمن فقدوا حواسَّ السمع والنطق والبصر؛ لأنهم لم ينتفعوا بها، فهم صُمٌّ عن سماع الحق والانتفاع به، بُكْمٌ عن قول الحق والنطق به، عُميٌ عن النظر والتأمل في آيات الله بأبصارهم وبصائرهم.
قال ابن القيم: "فإن الهدى يدخل على العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه، ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سُدَّتْ عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئًا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها"[5].
وقال أيضًا: "فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم"[6].
ولهذا قال عز وجل: ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]؛ أي: لا يرجعون ولا يخرجون عما هم فيه من ظلمات الجهل والشك والكفر والنفاق؛ لحرمانهم من نور الله عز وجل، وانسداد أبواب الهداية لديهم بالصمم والبكم والعمى، نسأل الله تعالى الهداية والعافية، وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].